سُجناء يؤدون عرضاً مسرحياً ثم يعودون لزنازينهم

وقف الجمهور مصفقاً بحرارة لهؤلاء الفنانين مرهفي الإحساس، بعد أن نالوا الإعجاب بأدائهم، وبعد انتهاء العرض المسرحي عاد أعضاء الفرقة إلى زنازينهم، فهم مجموعة من الفنانين السجناء الذين لم تنتهي محكومياتهم بعد.

المخرج رشيد علي العدواني، صاحب هذه التجربة الفريدة، يعمل على تقديم أعضاء الفرقة المسرحية واحداً تلو الآخر، وبعد أن كان الجميع يسخر منه أصبحت تجربته محط إعجاب وإشادة في المغرب.

تختنق الكلمات فجأة في حلقه وهو يرى حُلماً سكنَهُ لسنوات يتحقق أخيراً، متمثلاً في عمل مسرحي انْعتَق من خلاله سجناء (بعضهم محكوم عليه بالمؤبد) من قيود السجن صوب رحابة المسرح.

“مبارك ومسعود».. ولادة جديدة لهؤلاء السجناء الذين ارتبكوا جرائم كبيرة

لم تكن قصة المسرحية التي تحمل اسم “مْبارَك ومْسعود» (مبروك)، بعيدة عن عقول هؤلاء الفنانين السجناء ولا ذكرياتهم.

ففي هذه المسرحية يقدم 28 من نزلاء ونزيلات السجون المغربية مواضيع مجتمعية مجسدة في قالب كوميدي اتخذ من العرس المغربي التقليدي منصة للحوار وطرح الأفكار، طيلة 90 دقيقة لاقت استحسان الجمهور.

فنانون ارتبك بعضهم جرائم كبيرة ومحكوم عليهم بالسجن لسنوات طويلة، ولكنهم انطلقوا نحو عوالم الفن ومعانقة الجمهور.

وهم يخططون للاستمرار في هذا الفن المفاجئ أنهم لم يكتفوا بهذا النجاح الذي حققوه وهم في السجن، بل باتوا يخططون للاستمرار في العمل بالمسرح بعد انتهاء محكومياتهم، بعد أن وجدوا في هذا الفن الطمأنينة واستطاعوا التعبير عن ذواتهم المخنوقة وأجسادهم المسجونة.

ويخرج أعضاء فرقة الفنانين السجناء لتقديم مسرحياتهم كل مرة بعد حصولهم على إذن استثنائي يمكنهم من مغادرة أسوار السجن لساعات قبل العودة إليه مجدداً.

المخرج المغربي اختار هؤلاء السجناء الفنانين بعناية بعد أن جاب عدداً من سجون البلاد.

الأمر لم يكن سهلاً، ولكنه أيقن أن ولوجه عالم السجون سيغير حياة الكثير منهم. وهو ما حدث فعلاً، إذ تمكّن عدد من السجناء السابقين أن يحظوا بفرص عمل بفرق مسرحية، وهو الأمر الذي لم يخطر لهم على بال أي أحد منهم.

من الاتجار بالمخدرات إلى احتراف الفن.. يا ليتني عرفته منذ زمن

أحد هؤلاء الفنانين السجناء يبلغ من العمر 35 سنة، قضى منها 16 عاماً بين جدران السجن بسبب المتاجرة في المخدرات والممنوعات.

رآه المخرج رشيد علي العدواني لأول مرة خلال مسابقة لانتقاء المواهب بأحد السجون، لينطلق بعد ذلك في رحلة للتدريب على مسرحية التي كانت بمثابة “طوق نجاة للهروب من حياته السوداوية»، حسبما يقول.

يقول الشاب الذي غادر أسوار السجن قبل مدة قصيرة لـ»عربي بوست»: “تصالحت مع نفسي والمجتمع، وغيرت الصورة التي كانت في ذهني عن الجميع، وأعتزم امتهان المسرح خاصة بعد أن انتهت مدة محكوميتي، وهي بحق أفضل ما عشته إلى الآن».

وها هو قد أصبح يحترف الفن

الفنان المسرحي الواعد الذي تدرب على يد المخرج رشيد العدواني، شارك بالعرض المسرحي “مبارك ومسعود».

وقد جد طريقه نحو الفن المسرحي بعد الخروج من السجن، إذ اختارته فرقة مسرحية واعدة للمشاركة ضمن عروضها.

بعض الفنانين السجناء احترفوا الفن بعد خروجهم من السجون

يقول المخرج المسرحي: “أيُّ عمل فني يكون له وقع مهم على نفسية السجين الذي يعيش تحت وطأة التعليمات مقيداً داخل مكان محدود ومراقب».

وأضاف: “العمل مسرحي والتدريبات المتنوعة تمكنه من كسر الرتابة وقتل الوقت واكتشاف الجمال والتعبير أمام الملأ بوجه مكشوف».

كل ما ذكره العدواني انعكس إيجابياً على النزلاء ممن تجاوبوا مع التجربة وأعربوا عن سعادتهم.

يقول المخرج المتحدث بنبرة متأثرة: “لمست فيهم الإرادة والصدق والرغبة في التغيير والعطاء لأنهم وجدوا في المسرح متنفساً لأرواحهم».

الجماهير تقف احتراماً للفنانين السجناء بينهم وزراء ومسؤولون

غصَّ مسرح محمد الخامس، وسط العاصمة الرباط، بوزراء ومسؤولين وفنانين وجمهور عريض أتوا خصيصاً لمشاهدة عمل فني فريد يجمع 28 فناناً سجيناً.

جاءوا متسائلين إن كان باستطاعة المخرج الشاب النجاح في التحدي وتقديم منتج فني لائق.

بدأ الممثلون يتقدمون إلى خشبة المسرح الواحد تلو الآخر، يبحثون في جزء منها عن ذواتهم الإنسانية ويستعرضون طاقاتهم الإبداعية أمام مئات الحاضرين لأول مرة في حياتهم.

إلقاؤهم الواثق على خشبة المسرح، وتميُّز أدائهم بروح إبداعية كبيرة جعل جنبات المسرح تضج ضحكاً حيناً وتصفيقاً حيناً آخر.

هذه التجربة، دفعت العدواني إلى القول لـ»عربي بوست»: “لقد عبروا عن همومهم وإحساسهم، وقدموا عرضاً مسرحياً راقياً بكثير من التلقائية والعفوية والاحترافية».

وما حدث بعد خروج بعضهم من السجن كان مفاجأة

وبعد هذا النجاح، تقرر عرض نفس المسرحية برغبة من محمد صالح التامك، المندوب العام لإدارة السجون بالبلاد.

وانطلقت المسرحية في رحلتها لتعرض أمام جماهير 20 مدينة مغربية، وكذلك داخل كل السجون المغربية ليتسنى لجميع النزلاء والنزيلات الاستمتاع بمشاهدة العرض المسرحي خلال سنة 2019.

أما من غادر السجن من الفنانين السجناء فكان لهم فصل آخر من التدريب والتجارب الفنية.

فبعد قضاء عبدالسلام مدة محكوميته، قرر الاستفادة من التدريب بالمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط على الرغم من مستواه الدراسي المتدني.

شراكة بين وزارة الثقافة ومندوبية السجون لتدريب السجناء

شراكة جمعت بين وزارة الثقافة ومندوبية السجون بالمغرب سمحت لنزلاء السجون الاستفادة من عدة ورشات قبل الحصول على تدريب يخول لهم احتراف المسرح ومختلف الفنون التي يرغبون بها.

كما ينتظر نزيلان فرصتهم لإكمال تدربيهم في المدرسة الوطنية للسيرك ابتداء من الموسم المقبل.

عبدالسلام (26 عاماً)، روى لـ»عربي بوست» تجربة مشاركته في مسرحية “مبارك ومسعود» بكل فخر واعتزاز.

وقال ضاحكاً: “اكتشفت موهبتي وأنا مسجون، وأنا عازم على أن أكمل في ميدان الفن وأمارسه حتى آخر يوم في حياتي».

في البدء كانت المهمة تبدو مستحيلة

كل النجاح الذي حصدته مسرحية “مبارك ومسعود»، وكلمات الثناء والإشادة التي حصدها المخرج المسرحي الشاب، لم يكن لها أي وجود عند بداية التجربة.

“كتخْوي الما فالرَّملة»، أي أنك (تسكب الماء على الرمال)، هذا هو التعليق الذي كان يصدر عن أفراد المجتمع الصغير المحيط بمخرج المسرحية حين يشاهدون زياراته المتكررة نحو السجن طيلة شهور.

إلا أن العدواني اعتبر أن هذه الانتقادات تحفيزاً منعه من التراجع، خاصة أن هذا الحلم راوده لثماني سنوات أن يؤسس فرقة من الفنانين السجناء.

المخرج تعرض للسخرية في بداية التجربة

وأُتيحت له فرصة الولوج للسجن عبر بحث أكاديمي لنيل شهادة الماجستير تخصص عبره في التنشيط الثقافي والإبداع الفني بكلية علوم التربية بالرباط.

وتناول البحث أهمية اللعب المسرحي لإدماج نزلاء العقوبات المطولة بالسجن المركزي بالقنيطرة.

يقول المخرج لـ»عربي بوست»: “كنت مستعداً لتقبل نفسية السجين وطبيعة الأحكام وعقلية بعض الموظفين والمؤسسة السجنية».

إلا أنه استدرك قائلاً: “8 أشهر من العمل معهم مكّنتني من اكتشاف عدد كبير من الطاقات الإبداعية حبيسة نظرة مغلوطة عن الفن والمسرح غيبتها الحياة وقساوتها».

ورأى أن المسرحية كانت بمثابة إعلان عن ولادة جديدة، من أجل الاستمرار في الحلم ومعانقة الحياة والاندماج من جديد.

عربي بوست

التعليقات


إضافة تعليق
التعليقات تخضع للرقابة قبل نشرها