تازة مدينة عجائب مغربية تجمعها التناقضات
إدريس الواغيش
تازة أقدم المدن المغربية، مدينة صغيرة من حيث وعائها الجُـغرافي، كبيرة بنفائسها، أعلامها وصندوق عجائبها، لعبت أدوارًا حاسمة ومتناقضة في تاريخ المغرب، جغرافيتها ومناخها لا تخلوان بدورهما من غرائبية: مُتقلبان ومُتناقضان أكثر من أي مدينة أخرى، هي مدينة الما بين- بين بامتياز، لا شرقية ولا غربية، ولا هي أطلسية أو ريفية، تركيبتها السكانية انعكاس لتموقعها الجغرافي، وسكانها هم مزيج من القبائل العربية والريفية وأمازيغ الأطلس المتوسط.
غطاؤها النباتي لا يقل تناقضا هو الآخر، غابات هنا بالقرب من عُـلياها على قمَم جبال قسمها الجنوبي وقحط هناك على الجهة المُقابلة شمالا وشرقا في سُـفلاها، حيث تنتصب هضاب ووهاد صلصالية لا تنبت ربيعا ولا شجرًا، يزورها الاخضرار مَـرَّة في السنة، ثم يغيب عنها بعد ذلك وتصبح تحت سطوة لون رَمادي يستمر إلى الرّبيع المقبل.
تشتهر تازة بتقسيمها الجغرافي والإداري المُختلف عن باقي المُـدن المغربية، إذا كانت المدن الأخرى لها اسم يخص الجزء الكولونيالي، مثل:"حَـمْرية" في مكناس و"الفيلاج" في القنيطرة و"la ville" في باقي المدن ومنها فاس، فإن تازة اشتهرت بقسميها الشهيرين: "تازة السُّـفلى / Taza- bas= دْرَاع اللوز" الذي يلزمك الاحتيال للخلاص منه صُعودًا إلى مُرتفع صخري يرقد تحت جبال "تازكا"، كي تصل إلى "تازة العليا/ Taza haut= أحْـرّاش"، كما اشتهر نصفها القديم مثل باقي المدن المغربية العتيقة بكثرة أبوابها.
في تازة أكثر من باب، وكل باب له ألف قصة وحكاية؛ لكن أشهر هذه الأبواب على الإطلاق هو الذي اشتهر بنكت التصقت به عُـنوة وحفظتها ساكنتها وأيضا غرابة تسميته، هو "بابُ الجُمعة" أو (la porte de vendredi- كما كنا نسميه على سبيل النكتة والدعابة).
يتمَـوْقع هذا الباب في شمال شرق المدينة، مع أدراجه التي لم أنجح في عَـدِّها على مدى ثلاث سنوات قضيتها هناك كطالب، له أكثر من حكاية تاريخية وأخرى شعبية لم يستطع أي تدقيق علمي الفصل فيها بين الحقيقة والخيال، هل يعود إلى سبب تاريخي كما ورد في بعض المصادر أو لروايات شعبية كثيرة وبعضها غريبة. يأتي بَعدها "بابُ الرّيح" الذي كان أبناء "تازة العُـليا" يتفننون في حكي العجائب عنه، إحداها تقول مثلا إن الريح في "باب الرّيح" رفع عَجَـلتي إحدى السيارات الأماميتين في فصل الشتاء، وبقي السائق المسكين معلقا، حتى هدأت العاصفة وحَـنَّ ريحُها الشتوي عليه..!
كانت بتازة أيضا وحتى بداية الثمانينيات أربع قاعات سينمائية، أغلقت واحدة أبوابها مُبكرا وبقيت ثلاث، واحدة في المدينة القديمة اسمها "الأطلس"، كانت متخصصة في عرض الأفلام الهندية، واثنتان بتازة السُّـفلى (المدينة الجديدة)، إحداهما هي سينما "كوليزي"، التي كانت تعرض أفلاما متنوعة وجديدة نسيبا.
كان بها رجل أربعيني أبكم/ أصم، شديد البأس ومزاجي، لا يعرف رحمة ولا شفقة أثناء أداء عمله، ويكون عكسها تماما يا سبحان الله خارجه، ضحُـوك تسكن مُحياه بشاشة غريبة، قد يمدُّك بسيجارة مثلا أو يفرط في كرمه أحيانا، فيقوم بشعلها لك حتى..!!.
كان هو المُشرف على النظام العام أمام مكتب حجز التذاكر، يتقدمه شباك حديدي صغير، بالكاد تظهر بداخله فتاة كانوا يقولون عنها حسناء من حسناوات مالك القاعة، تفرقت الآراء بين كونها واحدة من عشيقات مالك السّينما الثري أو إحدى بناته الجميلات؛ لكن لا أحد في الحقيقة تأكد من ذلك، لأن المرور في الصف أمام الشباك كان قطعة من جهنم لا نعرف كيف كنا نمر منه، وهل ننجو من سطوة الأبكم الأصم أم لا؟، وهكذا لم يجد أحد طريقة للتحقق من نسبها أو جمالها.
كان الأربعيني يحمل في يديه اليسرى حزاما جلديا عسكريا قديما، وويل لمن سوّلت له نفسه الخُـروج من الصف، كان صغيرا أو كبيرا ذكرًا أو أنثى، من عامة الناس أو خاصتهم، يضرب كالأعمى ولا يهتم بالجهة التي ستنزل عليها "السّْمطة بالبزيم"، كان الجميع يقبل بتعنيفه عن طيب خاطر. كان سلخه لجلودنا جزءا من الطقوس الجميلة قبل دخولنا إلى القاعة، ولا تكتمل الفرجة من دون ضرب وما تتركه "السّمطة" من آثار واحمرار تتركه على العُـنق والكتف في الغالب.
لا أتذكر أن أحدا عاتبه أو اشتكى من تعنيفه أو حاول أخذ ثأره منه، كانت حلاوة السينما تكمن في هذه الطقوس، ولم يكن يسلم من أذاه حتى الشخصيات العامة في المدينة الصغيرة بربطات أعناقهم وكروشهم المنتفخة.
كنا نتساوى جميعا أمام عدالة حزامه الجلدي، وحينما نخرج بعد ذلك، نحكي عن ضربه لنا ونظهر آثاره في انتشاء، ونحيّيه بعد ذلك إن صادفناه في الشارع أو يسبقنا هو إلى ذلك، وكأن شيئا لم يحدث.
عندما تنتهي "معركة" الدخول والتدافع ويبرد العَـرَق على أجسادنا، ونحن جلوس على مقاعدنا الحديدية، تبدأ فصول أخرى من المُعاناة والصَّـفير والاحتجاج، إن هو "سَـرَق" أو اقتطع بعض اللقطات من الفيلم ربحا للوقت، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بمشاهد حَـميمية أو لقطات ساخنة جدا؛ لأنه هو المشرف وراء جهاز العرض على الشاشة وإدارة المِسْلاط أو البروجكتور، وعلى من كنا نصفه يا حسرتاه؟ على أصمّ / أبكم؟ يا لتفاهتنا وغبائنا، حين كنا نعي ذلك أو ينبهنا أحدهم وقد جفت حناجرنا من الزعيق والصفير، نصمت جميعا...!!
أحيانا كان ينهي كل شيء وينير المصابيح، وبالتالي لم يكن أمامنا حينها إلا الاتصال بصاحب القاعة نفسه، كي يتوسط لنا عنده حتى يكمل العرض، كان الرجل الأربعيني الأصم- الأبكم جـدِّيا إلى أبعد الحدود، يعتبر ذلك من ضمن اختصاصه ولا ينازعه في ذلك أحد، حتى مالك قاعة السينما نفسه، يتصرف وكأنه صاحبها في حضرة مالكها الحقيقي...!!.
هسبريس